اللاجئ ليس رقمًا.. بل قصّة لم يسمعها أحد

 

 

 

ريتّا دار **

لا أعرف اسمه.. كان يمشي في نفس الشّارع الذي أعبره يوميًّا، يحمل كيسًا بلاستيكيًّا صغيرًا، ويرتدي معطفًا يبدو أوسع من عمره. طفلٌ لاجئٌ، قد لا يتجاوز العاشرة، عيناه لا تنظران إلى العابرين؛ بل إلى الرّصيف، وكأنّه يعتذر، وكأنّ لخطواته أن تُزعج المدينة.

اللاجئون ليسوا نشرة أخبار، ولا مؤتمرات تُعقد كل عامٍ باسمهم. اللاجئ هو شخصٌ حقيقيٌّ، قد يكون جارك، زميل ابنك في المدرسة، أو بائع المناديل عند الإشارة. هو إنسانٌ نزح من أرضه، لا لأنّه أراد، بل لأنّ الحياة دفعته بقسوة إلى طريق لا عودة فيه.

نحن في العالم العربي نكبر ونحن نعرف كلمة "لاجئ". نربطها غالبًا بالفلسطينيّ، ثمّ السّوريّ، ثمّ اليمنيّ، ثم السّودانيّ، وكأنّها هويّة تنتقل من بلدٍ لآخر، من جيلٍ لآخر. لكنّ ما لا ننتبه إليه، هو أنّ هذه الكلمة تحمل في طيّاتها آلاف التّفاصيل الّتي لا تُقال.

اللاجئ ليس فقط من خسر بيته؛ بل من خسر مكانه في الحياة. اللاجئ لا يحتاج فقط لبطانية في الشّتاء، وإنما يحتاج لمن يسأله: "كيف حالك؟" دون أن يُشعره بأنّه عالة. اللاجئ لا يُريد أن يكون مادة إعلانيّة في حملات التبرّع، بل صوتًا مسموعًا في المجالس الّتي تقرّر مصيره.

أتذكّر صديقة فلسطينيّة، كانت تقول لي: "أنا لاجئة، وعمّالين يناقشوا وضعي بمجلس الأمن، بس ما حد سألني أنا إيش بدّي". ضحكتْ حينها، لكنّها كانت تضحك من مرارةٍ عمرها ثلاثة أجيال. لم تختر أن تولد في خيمة. لم تختر أن تكون جنسيّتها ورقةً مؤقّتةً أو حلمًا مستحيلًا.

كم من طفلٍ لاجئ يحمل كتابًا لا يعرف كيف يقرأه؟ كم من فتاة لاجئة تفوّقت ولم تجد من يفتح لها باب الجامعة؟ وكم من أمّ لاجئة تمضي لياليها وهي تحاول أن تُقنع أبناءها أن الحرب انتهت، رغم أنّها لم تنتهِ بداخلها بعد؟

أصعب ما في اللجوء ليس الجوع، بل الشعور بأنّك غير مرئيّ. أن تُعامل كأنك عابرٌ غير مرغوبٍ فيه. أن تُختزل في ملفّ أو تُقيَّم بمساعدات تُوزع بلامبالاة.

لكن مع كلّ هذا، يظلّ اللاجئ رمزًا للقوّة. لأنّه ببساطة.. نجا.

نجا من القصف، من الغرق، من المخيّم، من الخذلان، من العزلة، ومن الموت.

لكنّه لم ينجُ من الظّلم.

اللاجئ ليس حالةً استثنائيةً، بل نتيجةً من نتائج هذا العالم غير العادل. والمؤلم أنّنا نحن العرب، بتنا نعتاد صور اللجوء كأنّها مشاهد متكرّرة لا تثير شيئًا فينا. نمرّ على المخيّمات في نشرات الأخبار وكأنّها ديكور، ونتجاهل أنّ بداخلها أرواحًا تشبهنا، بل ربّما تتفوّق علينا صبرًا وإيمانًا.

نحتاج أن نُعيد تعريف اللاجئ في وعينا. هو ليس غريبًا، ولا دخيلًا، ولا شخصًا بلا مستقبل، بل إنسانٌ نازحٌ، فقد طريقه، ويحتاج فرصةً جديدةً، لا شفقةً جديدة.

الكرامة لا تُمنح بالمساعدات، بل بالاحترام. والأمل لا يُزرع بوعود لا تتحقّق، بل بسياسات تفتح الأبواب أمام من يستحقّ الحياة.

أنا لا أعرف اسم ذلك الطّفل الّذي مرّ بجانبي.. لكنّي متأكّدة أنّ له اسمًا، وحكايةً، وحلمًا بسيطًا: أن يعود يومًا إلى بيته، أو على الأقلّ، إلى مكانٍ يشعر فيه أنّه ليس ضيفًا ثقيلًا في هذا العالم.

** صحفية سورية

تعليق عبر الفيس بوك

الأكثر قراءة